المبحث الثاني : المسؤولية العقدية وللمحامي عن أخطاء غيره
جاء بالفصل 44 من قانون 1989 المنظم لمهنة المحاماة بأنّ: ّعلى المحامي أن يحضر بنفسه أمام القضاء، وله أن ينيب عنه من يراه من زملائه وتحت مسؤوليته الشخصية"، كما نصّ الفصل 24 من قانون الشركات المهنيّة للمحامين عدد 65 لسنة 1998 مؤرّخ في 20/07/1998: " كلّ شريك تسبّب في مضرّة أثناء مباشرة لأعماله المهنيّة سواء كانت المضرّة مادّية أو مضرّة حسيّة تكون مسؤولة عن خطئه إذا كان الخطأ ماديّا".
بهذا النص أصبح المحامي مسؤولا عقديا لا بصفة شخصية فقط من إضرار للغير بأخطائه المهنية، بل أصبح مسؤولا عن أخطاء غيره ممّن يستعين بهم في تنفيذ إلتزامه كلاّ أو جزءًا إستجابة لدواعي النشاط المشترك وهوما نصّ عليه الفصل 27 من قانون المحاماة إذ نصّ على أنّ:" المحامي يباشر مهنته منفردا أو بالاشتراك مع غيره أو ضمن شركة مدنية مهنية تخضع للشريع الجاري به العمل"، لذلك فإنّ الضرر الذي يصدر عن فعل أحد من الاتباع أو المساعدين يثير تساؤلا عن مدى مسؤولية صاحب المهنة عنه وذلك بمناسبة تنفيذ عقد المحاماة وبقصد معرفة مسؤولية المحامي العقدية عن أعمال غيره وجب علينا التعرض أوّلا إلى أساس تلك المسؤولية ( الفرع الأوّل ) وثانيا تحديد شروطها ( الفرع الثّاني ).
الفرع الأول : أساس المسؤولية العقدية للمحامي عن أخطاء غيره
إّن غالبيّة الفقه في فرنسا يذهب إلى إعتبار المدين مسؤولا عقديا عمّن يستخدمهم في تنفيذ إلتزامه بالرغم من عدم وجود نص يقرّر المبدأ العام في المسؤولية العقدية عن عمل الغير على غرار القانون التونسي الذي أورد في الفصل 245 م . ا . ع .بأنّ :" المديون مسؤول بما يصدر من نائبه وغيره ممّن إستعان بهم على إجراء الإلتزام كما لو صدر ذلك منه وله عليهم الرجوع حيث ما يجب قانونا " ، كما جاء بالفصل 24 من قانون الشركات المهنيّة ما يلي : ّوتكون في هذه الحالة الشركة المهنيّة التي يباشر فيها المعني بالتعويض عمله ضامنة وملزمة بأداء المبالغ المستحقّة إذا أثبت عدم قدرة المدين على الوفاء جزئيّا أو كليّا ولها حقّ الرّجوع عليه بالدرك".
وكذلك نجد مايشابه ذلك التنصيص بالقانون الألماني الذي نصّ صلب المادة 378:" يكون المدين مسؤولا عن تقصير نائبه الشرعي وتقصير الأشخاص الذين يستخدمهم لتنفيذ تعهّدهم كما لو كان ذلك ناتجا عن تقصيره الشخصي ".
وبالنظر إلى غياب أساس واضح لتلك المسؤولية فقد تعدّدت الأراء والنظريات بغية تحديد ذلك الأساس ( الفقرة الأولى ) والتي سنتولى تقدير قيمتها في( فقرة ثانية ).
الفقرة الأولى : النظريات المحددة لأساس هذه المسؤولية
تراوحت هذه النظريات بين من يعتبر خطأ المدين الشخصي أساس هذه المسؤولية في ظل القوانين التي لا تقر مبدأ عامّا لها ومن أبرز هذه النظريات نظرية الخطأ ضد المدين لسوء الاختيار والرقابة ونظرية الإلتزام بتحقيق نتيجة ونظرية النيابة ونظرية القوة القاهرة و بين من لا يعتقد بالخطأ الشخصي للمدين كأساس لهذه المسؤولية في ظل القوانين التي لا تضم مبدأ عامّا ، ومن أهمّ هذه النظريات التي تمّ الإشارة إليها وتبنّيها سواء من قبل المشرع التونسي صلب الفصل 245 م . ا . ع .أو من قبل المشرع الالماني في المادة 378 و اللّذان أقرّا مبدأ عامّا للمسؤولية العقدية عن فعل الغير وهي : أولا : نظرية تحمل التبعة: ومفادها أنّ أي شخص يلجأ إلى إستخدام الأشخاص ليستعين بهم في تنفيذ إلتزامه يكون مسؤولا عن أفعالهم التي تسبّب ضررا للطرف الذي ينفذ الإلتزام لصالحه بالنظر لما يعود على الشخص المستخذم من نفع، ممّا يقتضي تحمّل تبعة الأفعال الضّارة الناجمة عن النشاط المشترك عملا بقاعدة الغنم بالغرم، لهذا ففي صورة الفصل 44 من قانون مهنة المحاماة فإنّ المحامي يعتبر مدينا ومسؤولا ومتحمّلا لتبعة نشاط من إختارهم تحقيقا لمصالحه الخاصة.
ثانيا : نظرية الضمان الضمني : تذهب هذه النظرية إلى القول بأنّ المدين يضمن ضمنا ما يسبّبه مساعدوه و42.تابعوه من أضرار للطرف الآخر وفي ذلك يقول الفقيه "Renaud " أنّ ذلك لم يأت بصراحة القانون، وإنّما ينبغي الرجوع إلى إتّفاق الطرفين المتعاقدين الدائن والمدين، فإذا كان الاتفاق يحتوي على بند يلقي عبء المسؤولية عن أفعال الغير على المتعاقد نفسه، فلا جدوى من إثارة موضوع المسؤولية العقدية عن الغير عندئذ أمّا إذا سكت العقد عن ذلك كان بالامكان إعتبار هذا الضمان متوافرا في أي عقد وافتراض أنّ المدين يتحمل الضمان. ثالثا : نظرية الضمان القانوني : يرى أصحاب هذه النظرية ( ) أنّ الأساس الحقيقي للمسؤولية عن فعل الغير هوالقانون نفسه، وأنّ الإعتبارات تنشأ عن الحرص على تحقيق العدالة والمصلحة العامة، فإعتبارات العدالة تقتضي إقرار هذا الضمان، لأنّ من يستعين بهم المدين غالبا ما يكونون معسرين و يعجزون عن الوفاء بمبلغ التعويض الذي يحتمل أن يحكم به عليهم وضمان حقوق المتضررين أمر تقتضيه المصلحة العامة، فالمدين وهي صورة المحامي هو الاجدر بتحملّ تبعة أفعال تابعيه الضارة بإعتباره مستفيد من أعمال من هم تحت إشرافه .
وكما سبق أن أشرنا فإنّ المشرع التونسي قد أقرّ مبدا عامّا للمسؤولية العقدية عن فعل الغير وذلك صلب الفصل 245 م . ا . ع .والذي حسب رأينا يقوم على أساس تحمل التبعة ونظرية النيابة وذلك بقوله حرفيا: " المديون مسؤول بما صدر عن نائبه وغيره ممّن إستعان بهم على إجراء الإلتزام كما لو صدر ذلك منه "، فهناك من ناحية إتّحاد بين شخص المدين والغير الذي يكون التنفيذ لفائدته، فإذا لم ينفذ النائب الإلتزام إعتبر ذلك خطأ عقديا كما أقرّه في إطار تنظيم الشركات المهنيّة للمحامين صلب الفصل 24.
الفقرة الثانية : تقدير هذه النظريات
الواقع أنّ جملة النظريات الواقع بسطها، قد تعرضت إلى جملة من الانتقادات جعلها لا تصمد أمامها. فبالنسبة لنظرية إلتزام المدين بتحقيق نتيجة قول لا ياخذ بعين الإعتبار طبيعة إلتزام المحامي العقدي، ذلك أنه وإن كان في جانب من إلتزاماته محمولا عليه بتحقيق نتيجة، إلاّ أنّ تلك الإلتزامات تنطوي على بذل عناية، وقد قيل عن فكرة النيابة بأنّها متعسفة وذلك بقولها بأنّ خطأ الغير يعتبر خطأ عقديا صادرا عن المدين قولا لا يسقيم مع قواعد المسؤولية العقدية و يبدو مؤسسا على فكرة الضمان، أمّا بالنسبة لنظرية تحمل التبعة لا تحقق العدالة في دائرة المسؤولية عن فعل الغير ولمن تسبّب في ضرر لغيره بواسطة نائبه ، لأنّ هذه النظرية قد جانبت الصواب لما أحجمت عن فكرة رجوع المدين على الغير الذي صدر عنه الفعل الضار، وهو أمر أقرّه المشرع التونسي في الفصل 245 م . ا . ع بقوله :"وله عليهم الرجوع حيث ما يجب قانونا". كما أنّ نظرية الضمان الضمني واجهت انتقادا مفاده قيامها على افتراض الرضا وعلى تحميل الارادة اكثر ممّا تعنيه وفي القول بالضمان القانوني ما يغني عن ذلك، بالرغم مما قيل في شأن هذا الاخير بكونه لا يصلح كأساس قانوني للمسؤولية العقدية عن فعل الغير، بل أنّه أساس اقتصادي حسب زعمهم، وفي الاخير وبالنظر إلى الانتقادات التي وجّهت إلى تلك النظريات،فإنّ نظرية الضمان القانوني ظلت صامدة و بدت أكثر وجاهة في تحديد أساس المسؤولية العقدية للمحامي عن فعل أعوانه وبدلائه من محامين وغير محامين، إذ نورد في هذا الصدد قولة بيكيه ( ): " الحقيقة أنّ القانون والقانون وحده هو الذي يفرض على المدين ضمان أفعال الغير أراد المدين أم لم يرد، وإذا كان من الممكن للمرء الحديث عن الضمان فإنّ هذا الضمان ليس إلاّ ضمانا قانونيا ".
وهو أمر يتّفق مع ما أقرّه المشرع التونسي صلب الفصل 245 م ا ع و الفصول 35 و 44 من قانون 1989 المنظم لمهنة المحاماة والفصل 24 من قانون الشركات المهنيّة.
الفرع الثاني : شروط مسؤولية المحامي العقدية عن أعمال غيره
بما أنّ المسؤولية العقدية عن الغير هي فرع من المسؤولية العقدية عن الفعل الشخصي فينبغي حينئذ توفر نفس الشروط المتعلقة بالاخيرة والتي سبق أنّ تعرضنا إليها في إطار المبحث الأول وذلك أوّلا وجود عقد صحيح بين الدائن الذي أصابه الضرر والمسؤول وأن هناك رابطة سببية بين الضرر وفعل الغير الذي يسال المدين عنه، كما يجب أن يقع عدم التنفيذ والعقد لازال قائما، وثانيا أن يعهد المدين إلى غيره تنفيذ الإلتزام أو أن يمارس الغير حقا من حقوق المدين برضاه الصريح أو الضّمني، وعندما يتسبّب ذلك الغير بنشاطه ضررا للدائن يكون مسؤولا عن هذا الضرر تطبيقا لأحكام الفصل 244 م . ا . ع .الذي يجعل المدين مسؤولا عن خطأ نائبه وخطأ الأشخاص الذين إستعان بهم لتنفيذ تعهده كما لوكان ذلك تقصيره الشخصي، ونفس هذه الشروط نجدها منطبقة تمام الانطباق على المحامي الذي يكون مسؤولا عن فعل وكيله المحامي وهو موضوع (الفقرة الأولى) وعن فعل أعوانه من غير المحامين( الفقرة الثانية ).
الفقرة الأولى : شروط مسؤولية المحامي العقدية عن فعل وكيله المحامي و من هم تحت إشرافه :
خوّل الفصل 27 من قانون مهنة المحاماة مباشرة المهنة بصفة منفردة أو بالاشتراك مع غيره من محامين أو ضمن شركة مدنية مهنية كما جاء بالفصل 44 من قانون 1989:" إن المحامي له أن ينيب عنه من يراه من زملائه وتحت مسؤوليته الشخصية"، كماأنّ قانون 1998 المتعلّق بتنظيم الشركات المهنيّة للمحامين قد أورد نفس ذلك الإتّجاه، يتضح من خلال هذا النص أن الاصل هو جواز التوكيل لغيره من المحامين بشرط أن يكون المحامي الوكيل مرخصا له في ذلك ومرسّم بالقسم الأول الخاص بالمحامين لدى التعقيب والقسم الثاني الخاص بالمحامين لدى الاستئناف وذلك من الجزء الأول من جدول المحامين، أما بالنسبة للمحامين المتمرنين فهم حسب منطوق الفصل 44 الفقرة الثانية يجوز لهم الحضور بالنيابة عن المحامين المشرفين عنهم أوغيرهم ولكن دون إمكان تعهدهم بمكتب المحامي والاشراف عليه. إنّ المتمعّن جيّدا في أحكام الفصل 44 فقرة أولى يلاحظ أنّ المشرع لم يشترط حصول إذن من الموكّل في إنابة غيره من المحامين، ولكن يظل دوما مسؤولا عن خطأ ذلك الغير في حين أنّ الأمر يختلف في عقد الوكالة، هذا إذا سلّمنا جدلا بنظرية عقد الوكالة، ذلك إنّ الفصل 1127 م . ا . ع نصّ على أنّه: "ليس للوكيل أن يوكّل غيره إلاّ إذا جعل له الموكّل ذلك أو اقتضاه نوع التوكيل أو مقتضيات الحال". فالاصل هنا عدم الجواز والاستثناء هو الاستطاعة بشرط الإذن وهو ما يختلف مع منطوق الفصل 44 الذي عكس الآية وجعل الاصل هو الجواز والاستثناء هو شرط الإذن، ولكن تظل دوما مسؤولية المحامي عن فعل الغير قائما سواء أكان مأذونا أو غير ذلك، وهو أمر يتعارض أيضا مع أحكام الوكالة في فصلها 1129 الذي نص على أنّ: الوكيل مسؤول كمن وكّله إلاّ إذا كان مأذونا بتوكيل غيره"، وكذلك الفصل 24، وهذا أمر يعزز مقولة أنّ عقد المحاماة هو عقد من نوع خاص و يخرج عن الطبيعة القانونية لعقد الوكالة، ونضيف في هذا السياق بأنّ المحامي يظل دوما مسؤولا تجاه موكّله عن أخطاء وكيله على غرار ما نصّ عليه الفصل 1130 م . ا . ع .الذي جاء به:" وعلى كل حال فإنّ نائب الوكيل مسؤول مباشرة للموكل نفسه وله ما للوكيل من الحقوق". وتجدر الأشارة هنا انه في صورة الفقرة الثانية من الفصل 44 من قانون المحاماة أي أنه إذا عهد المحامي بمكتبه إلى أحد زملائه، كان عليه أن يعلم منوبيه بذلك الأمر فهل يظل مسؤولا بعد حصول الإذن والاعلام لموكّله عن أفعال وكيله المحامي؟.
لقد سكت المشرع في هذا الصدد واكتفى بعبارة " تحت مسؤوليته الشخصية " أي أنّ المحامي يظل مسؤولا عمّن وكّله بإذن أو بغير إذن تجاه الغير، فهو مسؤول حينئذ عن خطأ غيره أو عن خطئه في اختيار نائبه أو عن خطئه فيما أصدره من تعليمات وهو أمر يتماشى مع أحكام الفقرة 2 من الفصل 1129 م . ا . ع .حينما نص: " فلا يضمن إلاّ إذا إختار من لم يصلح أن يكون وكيلا أو إختار الصالح و أذنه بما جلب المضرة أو لم يراقبه ".
وقد ذهبت محكمة التمييز المصرية في هذا الاتجاه بقولها: " للمحامي المنتدب كل سلطة المحامي الموكّل في الحدود التي يقتضيها إبتداءً، فله بمقتضى المادة 33 من قانون المحاماة أن ينيب عنه في الحضور أو في المرافعة محاميا آخر تحت مسؤوليته دون توكيل خاص ".
وأخلص ممّا تقدّم إلى القول أنّه إذا تسبّب أي من المحامين الذين يستعين بهم محام آخر سواء أكان وكيلا أو بمحام يعمل معه في مكتبه أو محام تحت التمرين والاشراف، في ضرر لعميله فإنّ هذا المحامي يكون مسؤولا عن أفعال أعوانه طبق للمبدأ العام في المسؤولية العقدية عن الغير المقرر صلب الفصل 245 م . ا . ع والفصل 44 من قانون المحاماة.
الفقرة الثانية : شروط مسؤولية المحامي العقدية عن فعل اعوانه من غير المحامين:
عادة ما يستعين المحامي بموظفين أو مستخدمين كالسكرتير والكاتب وذلك قصد إعانته على حسن سير المكتب، و يظلّ هؤلاء تحت إشراف المحامي ويخضعون لتوجيهاته عند أدائهم لمهامهم ويكون المحامي مسؤولا عن الشخص الذي يستعين به في تنفيذ إلتزامه العقدي سواء أكان تابعا له أو لم يكن، وهو ما يجعل المسؤولية العقدية للمحامي عن فعل الغير أوسع نطاقا من المسؤولية التقصيرية الخاصة بمسؤوليته المتبوع عن فعل تابعه.
والرّأي عندنا هوأنّه كلّما تمّ إدخال أعوان أو مستخدمين في تنفيذ إلتزام المحامي العقدي يجعل المسؤولية الملقاة على عاتق المحامي عن أخطاء المساعدين هي من قبيل المسؤولية العقدية، ففي صورة مثلا فقـدان السكرتيرة لمؤيد مهمّ أنتج عنه ضياع فرصة إثبات حقّ العميل أمام القضاء فمسؤولية المحامي هنا هي مسؤولية عقدية عن فعل الغير بالأساس ( )
و في مثال أوردناه سابقا يتمثل في عدم تبليغ مستندات التعقيب في آجالها المحدّدة بسبب تأخر الكاتب في إضافتها لعطب في سيارته حال دون ذلك، و تسبّب ذلك في حرمان المعقّبة من حقّها في التقاضي وفقدت حظوظها في نيل القضية، جعل مسؤولية المحامي العقدية عن فعل الغير قائمة واتّجه التعويض على معنى الفصل 278 م . ا . ع .( )
وتجدر الإشارة في الأخير إلى وجود خلط بين المسؤوليتين العقدية والتقصيرية في دائرة المسؤولية عن فعل الغير، خصوصا في فرنسا وذلك لغياب نص قانوني واضح كما هو الشأن في القانون التونسي 245 م . ا . ع .والقانون الالماني إذ عادة ما يلجا القضاة في فرنسا إلى تطبيق الفصل 1383 من القانون المدني والمتعلق بالمسؤولية التي تحكم المتبوع التقصيرية على العلاقات التعاقدية وهو أمر عارضه الفقهاء ، وقال في شأنها الاستإذ سافاتيه ما يلي :" للحكم بهذه المسؤولية العقدية عن فعل الغير كانت المحاكم تلجأ إلى المادة 1383 أحيانا التي تجعل المتبوع مسؤولا عن أعمال تابعيه، وهذا خلط ، فالنص غريب عن المسؤولية العقدية ( )
لذلك وجب التمييز بين تلك المسؤوليتين لما في ذلك من أهمّية وذلك من عدَة نواح: أولا : إنّ المسؤولية العقدية عن الغير تتطلّب وجود عقد يولد إلتزاما في ذمّة مدين لم ينفّذ بسبب فعل شخص آخر، يكون المدين مسؤولا عنه، كما لو أناب المحامي زميلا له لرفع إستئناف أو حضور مرافعة للدفاع عن عميله، وتأخّر المحامي المناب حتى إنقضى أجل الاستئناف أو تخلّف حضور المرافعة، أمّا المسؤولية التقصيرية عن فعل الغير فلا تتطلب وجود رابطة عقدية بين المحامي و عميله. ثانيا : يشترط توافر علاقة تبعية بين المدين والغير في المسؤولية التقصيرية عن فعل الغيرولا يشترط تحقّقها لترتّب المسؤولية العقدية عن فعل الغير أثارها، ففي المثال المذكور آنفا لا يشترط أن يكون المحامي تابعا للمحامي الذي أنابه لترتّب المسؤولية العقدية عن الغير. ثالثا : تترتّب على عدم إشتراط توافر علاقة التبعية بين المدين والغير ترتَب المسؤولية العقدية عن الغير ، إنّ نطاق هذه المسؤولية يكون أوسع حسب رأينا من نطاق المسؤولية التقصيرية عن الغير وهو أمر أكَده المشرع التونسي صلب الفصل 245 م ا ع ، ويستشفّ ضمنا من أحكام الفصل 85 م اع، حينما إقتصر الحديث عن مسائلة الدولة والبلديات عمّا يقع من مستخدميها من غش أو خطأ جسيم لا يمكن التمسك به، إلاّ بعد إثبات إعسار المستخدمين ممّا يجدر بنا القول أنّ القانون التونسي قد قرّر المسؤولية التقصيرية عن فعل الغير ولكنه قصر تطبيقها على نطاق ضيّق وجعلها مسؤولية إحتياطية ، ولمزيد تبين أوجه الاختلاف بين كلا المسؤوليتين سواء عن خطأ المحامي الشخصية أو الصادرة عن فعل الغير لابدّ من التعرّض إلى التكييف القانوني الثاني والقائل بكون مسؤولية المحامي هي مسؤولية تقصيرية ( الفصل الثاني ).
الفصل الثاني : المسؤولية التقصيرية للمحامي:
يذهب بعض الفقهاء الفرنسيين( ) إلى القول أنّ مسؤولية المحامي تقصيرية ويبنون اتجاههم هذا على انتقاد تكييف علاقة المحامي بعملائه بأنّها رابطة تعاقدية, وينكرون ترتّب المسؤولية العقدية على المحامي وإن إرتبط بعقد مع حريفه ويؤسّسون نظرية المسؤولية التقصيرية المبنية على الإخلال بواجب قانوني وليس على الإخلال بإلتزام تعاقدي , وهو أمر سنتعرض إليه إبّان الحديث عن الأساس القانوني للمسؤولية التقصيرية للمحامي عن أخطائه المهنية والشخصية, مع ذكر أركانها وذلك في إطار ( المبحث الأول ) ثمّ نعرج للحديث في معرض ثان عن مسؤولية المحامي عن فعل الغير وتجاهه في إطار ( مبحث ثان ).
المبحث الأول : مسؤولية تقصيرية للمحامي عن أخطائه المهنية :
إنّ القائلين بهذا التكييف القانوني للمسؤولية المدنية للمحامي عن أخطائه المهنية يعتبرون أن أساسها القانوني يتمثّل في الإخلال بواجب قانوني ألا وهو عدم بذل العناية الواجبة من قبل شخص معتاد وملتزم بأصول المهنة والنزاهة في التعامل، وهو ما سنتعرض إليه في إطار (الفرع الأول) تحت عنوان أساس المسؤولية التقصيرية للمحامي عن أخطائه المهنية ثم نتنأول اثر ذلك و في اطار( فرع ثان ) أركان تلك المسؤولية.
الفرع الأول : أساس المسؤولية التقصيرية للمحامي عن أخطائه المهنية
إنّ الفقهاء الرافضين لإعتبار إلتزامات المحامي عقدية وأن الإخلال بها ينشأ المسؤولية التعاقدية معتبرين في هذا الاتجاه إنّ مبنى وأساس تلك المسؤولية للمحامي هو خطأ تقصيري يتمثل أساسا في الإخلال بواجب قانوني ( الفقرة الأولى )، إلاّ أنّ تبريرات الأساس التقصيري للمسؤولية المدنية للمحامي، ولئن إتفقت حول فكرة دحض النظرية العقدية، إلاّ أنّ الحجج المعتمدة في تأصيل وتحديد طبيعة هذه المسؤولية قد تعدّدت وهو ما سنتعرض إليه في إطار حديثنا عن مسألة تقييم الحجج المقدّمة من قبل أنصار المسؤولية التقصيرية للمحامي ( الفقرة الثانية ).
الفقرة الأولى : الإخلال بواجب قانوني هو أساس هذه المسؤولية :
يرى أصحاب هذه النظرية إلى أنّ الاعمال الادبية والعلمية لا يمكن أن تكون محل تعاقد ملزم وأنّ المحامي لا يسأل عقديا في مواجهة العميل وإعتبر أنّ واجب المحامي( ) ذو طبيعة خاصة فهو يلتزم بتكريس خدمته ومعارفه المهنية للدفاع عن قضية معينة سبق وأن تحدّدت عناصرها وأنّ مساعدته لن تؤدي بالضرورة إلى كسب القضية، بمعنى أنّ إلتزامه إلتزام يبذل عناية وليس بتحقيق نتيجة، لأنه في الغالب لا يشتكي العميل من عدم التنفيذ بل من التنفيذ المعيب، ولمّا كان إلتزام المحامي إلتزاما يبذل عناية ، فإن المسؤولية المترتبة عن الإخلال بواجب قانوني لا يمكن أن تكون سوى تقصيرية مادام العميل مكلّفا بإثبات عدم بذل العناية الواجبة من قبل المحامي ، ويرى فوس أنّ أساس مسؤولية المحامي هو الخطأ التقصيري لوحده والمتمثل في الإخلال بإلتزام بذل العناية وذلك بالنظر إلى طبيعة المهنة، ويرى في هذا الخصوص الفقيهان Rau et Aubry ( ) أنّ المحامي الذي يعد بالدفاع عن قضية والطبيب الذي يعد بالمعالجة لا يمكن إجبارهما على تنفيذ وعودهما مدنيا.
وقد حاول فوس التوفيق بين رأيه الرافض لفكرة العقد والنتائج القانونية المترتبة على تسليمه بوجود إتفاق إرادي بقوله:" إنّ بالامكان مقارنة وضع المحامي بالأوضاع المنصوص عليها في القانون المدني تحت إسم غير مناسب هو أشباه العقود ".إنّ عقد الوكالة كان يمكن أن يقدم لنا خير تفسير للمشكلة المطروحة لولا أنّ بعض أحكام هذا العقد تحول دون القول بإعتبار هذا العقد مصدر إلتزامات المحامي، ولكن القانون المدني الفرنسي يقرر وضعا قانونيا في هذه الحالة لا تتوافر فيه عناصر وآثار التوكيل ، ذلك هو الفضول ، فالمحامي يأخذ على عاتقه قضية عميله دون أن يلتزم بنتيجة في المستقبل ولمَا كان يقوم بخدمة فمن العدل أن يكافأ بأتعاب عادلة ".( )
ويمضي فوس إلى القول أنّ المسؤولية الناشئة في دائرة أشباه العقود ذات الطبيعة الخارجية عن التعاقد تكون تقصيرية ، ولمّا كان المحامون لا يستطيعون الارتباط بتعهدات ضيقة وإنّما يتقيدون بقواعد مهنتهم فان مسؤوليتهم تكون ذات طبيعة تقصيرية.
ويختم فوس رأيه بالقول: "إنّ الفضالة التي تعدو أن تكون تطبيقا لنظرية الكسب غير المشروع والتي يكمن أساسها في أنّ مبادئ القانون الطبيعي تبدو مناسبة لتحديد وضع المحامي ومسؤوليته، وأن هذا المفهوم يسمح بتفسير حركة المرافعة من الناحية القانونية والقواعد التي تسبق دفع الاتعاب.
الفقرة الثانية : تقييم حجج أنصار مسؤولية المحامي التقصيرية في هذا التكييف
إنّ مناقشة آراء أنصار القائلين بأنّ مسؤولية المحامي هي تقصيرية بالأساس ستختلف في عرضها بحسب الحجج المقدمة فمنها من ينكر وجود الرابطة العقدية وهو ما سنعرضه أوّلا ومنها من يقول بأنّ مسؤولية المحامي هي مسؤولية تقصيرية بالرغم من إعترافه بوجود الرابطة العقدية ثانيا. أوّلا : بخصوص مناقشة رأي أنصار المسؤولية التقصيرية المنكرين لوجود الرابطة العقديةو ذلك بحجّة أنّ الاعمال العلمية والادبية لا يمكن أن تكون محلا لتعاقد ملزم هو قول حسب رأينا قد طواه الزمن ولا أساس له في الواقع، ولا نجد له تأييدا في التشريع أو الفقه أو القضاء فهو لا ينطبق على الواقع لأنّ المعروف بأنّ المهنيين من محامين وأطبّاء ومهندسين وغيرهم يبرمون عقودا مع عملائهم مقابل اتعاب عادلة ، إذ لا يدور في ذهن أي منهم عدم الإلتزام بها، ويتعزّز هذا الموقف بما أقرّه المشرع التونسي وغيره من التشريعات إلى إقرار حق المحامي في إستخلاص كلفة الخصام ، وقد تحدّث الفصل 40 من قانون 1989 على صورة الخلاف حول أتعاب ومقدارها، لذلك فإنّ ممارسة المحامي لعمله المهني من أجل الكسب أمر لا يمكن أن ننكره عليه أو نعيبه أو نقرر حرمانه من أجره أمام القضاء إذا لم يقم العميل بخلاصه طوعا، كما أنّ تصوّر عدم توافر شروط العقد في إتفاق المحامي وعميله وعدم ترتيب آثار العقد عليه للقول بأنّ ما يعد به المحامي حريفه من قيامه باداء الواجب المستند من علمه وتجاربه يكون على المجاملة لا على سبيل الإلتزام والتعاقد ، وأنّ له الحق في التخلّي عن القضية التي قبلها دون إمكان محاسبته هو قول وتصوّر غير صحيح، لاته إذا ما التزم محام بالدفاع عن قضية ما فعليه عدم التخلي عن نيابته في وقت غير مناسب وذلك ما إقتضاه الفصل 75م م م ت وعليه عند التخلّي أن يعلم موكلّه وأن يدلي للمحكمة بما يفيد وقوع هذا الاعلام وهو ما أكّده الفصل 33 من قانون المحاماة حين أقر بأنه: "إذا قرر المحامي التخلي عن النيابة في قضية ما فعليه أن يتقيّد بأحكام التخلّي المنصوص عليها م م م ت" . وفي صورة عدم الامتثال لمقتضيات هذه القواعد فإنّ المحامي يكون عرضة للعقوبات التاديبية فضلا عن مسؤوليته المدنية التي تنشأ عن تصرّفه هذا. ثانيا : بخصوص مناقشة راي أنصار مسؤولية المحامي تقصرية المعترفين بوجود الرابطة العقدية، وهو رأي إنفرد به الفقيه فوس والذي حصر قيام المسؤولية العقدية في حالة عدم تنفيذ الإلتزام دون سوء تنفيذ أو لتاخُر فيه بحجة أنّ الخطأ العقدي يتوافر عند عدم التنفيذ وهو أمر ينطوي على خطأ فادح ، ذلك لأنّ الخطأ العقدي إذا كان يتوافر عند عدم التنفيذ، فإنّ تحديده يتاثر بنوع الإلتزام، فإن كان إلتزاما بتحقيق نتيجة توافر الخطأ لمجرد عدم التنفيذ، وإن كان إلتزاما يبذل عناية كإلتزام المحامي عند الترافع مثلا فإنّ الخطأ لا يتوافر إلاّ بإثبات عدم بذل العناية الواجبة قانونا وأحوال المهنة، فضلا عن أنّ فوس قد ناقض نفسه في إعتباره مسؤولية المحامي تقصيرية إذا ترك المحامي القضية متجاوزا حقه في التخلي وكان ينبغي عليه أن يعتبر المسؤولية عقدية مادام يعترف بوجود رابطة عقدية بين المحامي وعميله ومادام التخلي يعني عدم التنفيذ .
كما أنّ فوس لم يكن موفّقا في مقارناته بين عمل المحامي وعمل الفضولي لوجود فارق هام بين عمل كل واحد منهما، ذلك أنّ المحامي يرتبط بعميله بعقد يرتب إلتزامات على عاتق الطرفين وتعوّل عليه المحاكم في تقرير مسؤولية من لم ينفذ إلتزامه أو ينفذه تنفيذا معيبا كأن يكون قد كلف بالمرافعة أو بتقديم مستندات استئناف أو تعقيب وتراخى في القيام بهذه المهمّة، ذلك أنّ الفضالة تقتضي قيام الفضولي بعمل ضروري لمصلحة شخص آخر ويقصد اسداء خدمة لربّ العمل، وأن يكون غير ملزم بالقيام بما قام به وشتَان بين وضع الفضوليوتوكيل المحامي.
والحقّ أنّ آراء فوس قد جانبت الصواب واختلطت عليه الامور إلى درجة دمج نظامين في نظام واحد وهو الأخذ بالمسؤولية العقدية عند عدم التنفيذ ونظام المسؤولية التقصيرية عند حصول وتقدير الضّرر، واتّخذ لذلك النظام عنوان أطلق عليه إسم المسؤولية ذات الطبيعة شبه التقصيريةResponsabilité de nature quasi-delictuelle الشيء الذي جعل مثل ذلك التوجه عرضة للنقد الشديد.
وفي الأخير نقول بأن الراي القائل بمسؤولية المحامي تقصيرية رأي فيه مجافاة للعدالة ذلك لأن هذه المسؤولية في أصلها تقوم على خطأ ثابت يجب على المتضرر إثباته في جانب المحامي، وهو أمر يعجز عنه المتضرر في الغالب عن إثباته ويعسر تبيانه فيستسلم المواطن ويتحملّ الضرر عن رفع دعوى في المسؤولية ضد محام مقصّر لأنه على بيّنة من مدى صعوبة المجابهة مع محام متمرّس وذا دراية قانونية .
وما دمنا في إطار الحديث عن خطأ وضرر فلابدّ أن نتطرق في إطار فرع ثان إلى أركان المسؤولية التقصيرية للمحامي عن أخطائه المهنية .
الفرع الثاني : أركان المسؤولية التقصيرية للمحامي عن أخطائه المهنية
إنّ المسؤولية التقصيرية تقوم على أركان ثلاثة ألا وهي: الخطأ والضرر والعلاقة السببية، ولمّا كنّا قد تعرّضنا إلى هذه الاركان بالفصل الأول فسنتكتفي في هذا الفرع ببيان أوجه الخلاف بين أركان المسؤوليتين العقدية و التّقصيرية، أمّا ما يتطابق فيه المسؤوليتان من أحكام فقد سبق بحثه، لذلك سنبحث عن الخطأ التقصيري في (فقرة أولى ) والضّرر في ( فقرة ثانية) والعلاقة السببية في ( فقرة ثالثة ).
الفقرة الأولى : الخطأ التقصيري :
عرّفه بلانيول " بأنه الإخلال بإلتزام سابق "، وعرّفه ديموج بأنه " اعتداء على حق يدرك المعتدي فيه جانب الاعتداء "، وعرّفه جوسران بأنّه "بأنه الإضرار بحق دون أن يكون في وسع المعتدي أن يعارضه بحق أقوى منه أو مماثل له "، وعرّفه سافاتيه " بأنّه الإخلال بواجب مع تبيّن هذا الإخلال"( ).
وسبب هذا التّباين في تعاريف الخطأ هو أن المشرع الفرنسي وكذلك باقي مشرّعي البلاد العربية عدا المشرع التونسي ترك تعريفه للشرَح بحسب تأثّرهم بالتطّورات الاقتصادية والاجتماعية التي تحدث في مجتمعهم، وقد عرّفه المشرع التونسي صلب الفصل 83 م . ا . ع .بما يلي :"الخطأ هو ترك ما وجب فعله أو فعل ما وجب تركه" .
فالخطأ التقصيري عموما يتحلّل إلى عنصرين أولهما مادي أو موضوعي وهو الإخلال وثانيهما معنوي أو نفسي وهو الإدراك .
أمّا الخطأ المهني للمحامي فيتمثل في إخلال المحامي بإلتزماته المتعلقة بواجب العناية والبذل وعدم الإهمال ويعتبر الفصل 17 من القانون الفرنسي المنظم لمهنة المحاماة الصادر بتاريخ 31 ديسمبر 1971 أنّ مسؤولية المحامي تعدّ قائمة بسبب الإهمال والأخطاء المرتكبة في نطاق القيام بالمهنة.
وقد تعرضنا فيما تقدّم بأنّ الخطأ العقدي للمحامي يقاس بمعيار المحامي العادي وهو معيار الرجل المهني الصالح Le bon professionnel ينطبق على الفعل الضار التقصيري، وقلنا بأنّ المحامي يسأل حتّّى عن خطئه اليسير دون الاقتصار على الخطأ الفادح لقيام مسؤوليته.
وللتفرقة بين الخطأ العقدي للمحامي والخطأ التقصيري نشير إلى أنّ الخطأ العقدي يقوم في حالة عدم تنفيذ المحامي لإلتزاماته المتولدة عن العقد الذي يربطه بحريفه، أمّا في حالة اقترافه لخطأ تجاه هذا الاخير ولم يكن مرتبطا بعقد يكون تقصيريا بالأساس ، ففي صورة تسخير محام من قبل المحكمة للدفاع عن متّهم في جناية أو انتدابه بموجب اعانة عدلية لا يكون المحامي مرتبطا بعقد، وإذا ما ارتكب خطأ لا يمكن وصفه بأنه خطأ عقدي بل هو خطأ تقصيري، ويكون الأمر كذلك كلما وقع الإخلال بواجب قانوني كواجب عدم إفشاء سر المهنة إذ نصّ الفصل 100 م م م ت على ذلك الإلتزام بقوله : " المحامون والاطباء وغيرهم ممّن تقتضي حالتهم إعتبارهم بصفة مؤتمنين على أسرار الغير لا يجوز لهم إذا علموا بموجب هذه الصفة بواقعة أو معلومات أن يشهدوا بها ولو بعد زوال صفتهم ما لم يطلب منهم ذلك ممّن أسّرها لهم ، بشرط أن لا يكون ذلك محجّرا عليهم بأحكام القوانين الخاصة بهم ".
وقد نصَ الفصل 39 من قانون المحاماة على ما يلي :" يحجّر على المحامي إفشاء سرّ منوّبه التي أفشى له بها أو التي إطلع عليها بمناسبة مباشرته لمهنته".
لقد فرض ذلك الفصلان على المحامي واجب الامتناع عن إفشاء سرّ المهنة وإذا ما أفشاه يكون قد ارتكب خطأ تقصيري ولا يمكن نفيه بإثبات أنّه بذل كل العناية لعدم الافشاءوإن أمكنه نفي مسؤوليته بإثبات السبب الاجنبي كسرقة مستندات تحتوي على أسرار من داخل مكتبه .
ويكون المحامي مقترفا لخطأ تقصيري كلّما أخلّ بواجباته القانونية المتمثّلة في الحضور والمدافعة في إطار الإعانة العدلية أو التسخير الجنائي، إذ أنّه وأمام غياب عقد رابط بين الطرفين فإن خطأ المحامي لا يوصف بأنه عقدي بل أنه تقصيري، فعلى المحامي المنتدب على معنى أحكام الفصل 36 من قانون المحاماة مباشرة الدفاع على الوجه الأتمّ .
وتجدر الإشارة هنا بأن القانون هو المصدر المباشر للإلتزامات وأن الخطأ قد افترضه القانون عند الإخلال بتلك الإلتزامات الناشئة عن النص مباشرة، لذلك نستشف في الختام بأن الخطأ الناشئ عن الإخلال بالإلتزام هو خطأ مهني وليس خطأ تقصيري أو عقدي والذي سبّب المضرة للعميل .
الفقرة الثانية : الضرر
هو "الأذى الذي يصيب الشخص في حق أو في مصلحة مشروعة له فقد يصيبه في جسمه أو ماله أو حريَته أو في عاطفته أو شعوره أو في شرفه" ( ).
فالضرر يكون على نوعين مادّي ومعنوي وقد نصّ الفصلين 82-83 م ا ع .على أنّ :"من تسبّب في مضرة غيره سواء أكانت المضرة حسية أو معنوية فهو مسؤول بخطئه إذا أثبت أنه هو السبب الموجب للمضرة مباشرة ".
فيشترط في الضّرر أن يكون محقّقا وليس محتملا وأن يكون مباشرا متوقعا كان أم غير متوقع على خلاف الضّرر في المسؤولية العقدية الذي يقتصر على الضرر المتوقع وقت التعاقد من حيث مقداره وسببه باستثناء صورة الغش أو الخطأ الجسيم حيث يسأل عن الضرر المباشر المتوقع وغير المتوقع . فالحريف المتضرر من خطأ المحامي حين افشائه للسرّ المهني له كامل الحق في المطالبة بالتعويض على أن يثبت العلاقة السببية بين الخطأ والضرر .
الفقرة الثالثة : العلاقة السببية :
ينبغي أن تكون علاقة السببية بين الفعل الضار والضّرر علاقة مباشرة حتى تنهض المسؤولية التقصيرية وذلك ما عناه المشرع التونسي صلب الفصل 83 م ا ع .حين نص فيه على أنّه: "مسؤول بخطئه إذا ثبت أنه هو السبب الموجب للمضرة مباشرة " .
ولقد كان المشرع واضحا في هذا المجال وذلك بتحديد معيار السبب المنتج للمضرة بصفة مباشرة واضعا حدّا لنظرية تعدّد الأسباب أو نظرية تعادل الأسباب ، فالمحامي الذي تسبّب بخطئه التقصيري عن عدم رفع الاستئناف في خسارة القضية وكان لتلك الخسارة وقعا شديدا في إصابة الحريف بإنهيار عصبي فإنه لا يسأل إلاّ عن خطئه المسبّب للضرر المباشر ألا وهو خسران القضية دون إمكانية مسائلته مدنيا عن ضرر المتسلسل والمتمثل في الإصابة بالانهيار العصبي .
وفي الأخير لنا أن نشير أن مسؤولية المحامي التقصيرية لا تتعلق بأخطائه الشخصية فقط ، بل تتعداه لتشمل أخطاء غيره وكذلك تجاههم وهو ما سنتعرض له في الإبّان في إطار المبحث الثاني .